3 - الأيّام المعلومات الواردة في قوله تعالى : { ويذكروا اسمَ اللّه في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ } هي العشر الأوائل من ذي الحجّة ، على ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة ، وفي قولٍ عند الحنفيّة . وقيل : هي أيّام التّشريق ، وقيل : هي يوم النّحر ويومان بعده ، وهو رأي المالكيّة .
وقد روى نافع عن ابن عمر : أنّ الأيّام المعدودات والأيّام المعلومات يجمعها أربعة أيّامٍ : يوم النّحر وثلاثة بعده ، فيوم النّحر معلوم غير معدودٍ ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرّابع معدود لا معلوم . وقيل : هي يوم عرفة والنّحر والحادي عشر .
ج - أيّام النّحر :
4 - أيّام النّحر ثلاثة : العاشر والحادي عشر والثّاني عشر من ذي الحجّة ، وذلك هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لما روي عن عمر وعليٍّ وابن عبّاسٍ وابن عمر وأنسٍ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنّهم قالوا : أيّام النّحر ثلاثة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أيّام النّحر أربعة : يوم النّحر وأيّام التّشريق لما روى جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » .
وقد روي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه ، وبه قال عطاء والحسن والأوزاعيّ وابن المنذر .
د - أيّام منًى :
5 - أيّام منًى هي أيّام التّشريق الثّلاثة ، وهي الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر من ذي الحجّة ، وتسمّى أيّام منًى وأيّام التّشريق وأيّام رمي الجمار والأيّام المعدودات ، كلّ هذه الأسماء واقعة عليها . والفقهاء يعبّرون بأيّام منًى تارةً ، وبأيّام التّشريق تارةً أخرى .
ما يتعلّق بأيّام التّشريق :
أ - رمي الجمار في أيّام التّشريق :
6 - أيّام رمي الجمار أربعة : يوم النّحر ، وثلاثة أيّام التّشريق ، فأيّام التّشريق هي وقت لرمي باقي الجمار بعد يوم النّحر ، يرمي الحاجّ كلّ يومٍ بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاةً لثلاث جمراتٍ ، كلّ جمرةٍ سبع حصياتٍ ، والأصل في هذا ما روته السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى ، فمكث بها ليالي أيّام التّشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس ، كلّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ ، يكبّر مع كلّ حصاةٍ ، ويقف عند الأولى والثّانية ، فيطيل القيام ويتضرّع ، ويرمي الثّالثة ولا يقف عندها » . ورمي الجمار في أيّام التّشريق واجب ، ويفوت وقت الرّمي بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فمن ترك الرّمي في هذه الأيّام سقط عنه الرّمي لفوات وقته ، ووجب عليه دم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك نُسُكاً فعليه دم » . وهذا باتّفاقٍ . وباقي تفصيل أحكام الرّمي في مصطلح ( رميٍ ، وحجٍّ ) .
ب - ذبح الهدي والأضحيّة في أيّام التّشريق :
7 - وقت ذبح الأضحيّة والهدي ثلاثة أيّامٍ : يوم الأضحى ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة والحادي عشر والثّاني عشر ، فيدخل اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة وهو المعتمد عند المالكيّة ، وقد روي ذلك عن غير واحدٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عبّاسٍ ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الأكل من النّسك فوق ثلاثٍ » وغير جائزٍ أن يكون الذّبح مشروعاً في وقتٍ يحرم فيه الأكل ، ثمّ نسخ تحريم الأكل وبقي وقت الذّبح بحاله .
وقد ورد عن بعض أهل المدينة إجازة الأضحيّة في اليوم الرّابع .
وعند الشّافعيّة يبقى وقت ذبح الأضحيّة والهدي إلى آخر أيّام التّشريق ، وهو الأصحّ ، كما قطع به العراقيّون ، وقد روي عن جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » وروي عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال : النّحر يوم الأضحى وثلاثة أيّامٍ بعده وبه قال الحسن وعطاء والأوزاعيّ وابن المنذر .
ت - الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق :
8 - يكره الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، لما روت السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « وقت العمرة السّنة كلّها ، إلاّ يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق » ومثل هذا لا يعرف إلاّ بالتّوقيف . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، ولا يكره ذلك لعدم النّهي عنه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المحرم بالحجّ إذا أهلّ بعمرةٍ في أيّام التّشريق لزمته ، ويقطعها ، لأنّه قد أدّى ركن الحجّ من كلّ وجهٍ ، والعمرة مكروهة في هذه الأيّام ، فلهذا يلزمه قطعها ، فإن رفضها فعليه دم لقطعها ، وعمرة مكانها ، وإن مضى عليها أجزأه ، لأنّ الكراهة لمعنًى في غيرها ، وهو كونه مشغولاً في هذه الأيّام بأداء بقيّة أعمال الحجّ ، فيجب تخليص الوقت له تعظيماً ، وعليه دم لجمعه بينهما .
وعند المالكيّة يجوز الإحرام بالعمرة في أيّ وقتٍ من السّنة ، إلاّ لمحرمٍ بحجٍّ مفرداً ، فيمنع إحرامه بالعمرة - ولا ينعقد ، ولا يجب قضاؤها - إلى أن يتحلّل من جميع أفعال الحجّ ، وذلك برمي اليوم الرّابع لغير المتعجّل ، ومضيّ قدره لمن تعجّل ، وهو قدر زمنه عقب زوال الرّابع ، فإن أحرم بالعمرة قبل غروب اليوم الرّابع صحّ إحرامه ، لكن لا يفعل شيئاً من أفعال العمرة إلاّ بعد غروب الشّمس ، فإن فعل قبله شيئاً فلا يعتدّ به على المذهب .
ث - صلاة عيد الأضحى أيّام التّشريق :
9 - صلاة عيد الأضحى تكون في اليوم الأوّل من أيّام النّحر ، فإذا تركت في اليوم الأوّل ، فإنّه يجوز أن تصلّى في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهما الثّاني والثّالث من أيّام النّحر ، وسواء أتركت بعذرٍ أم بغير عذرٍ ، إلاّ أنّها إذا تركت بغير عذرٍ فإنّ ذلك مكروه ، وتلحقهم الإساءة ، وتكون أداءً في هذه الأيّام ، وإنّما جاز الأداء في هذه الأيّام استدلالاً بالأضحيّة ، فإنّها جائزة في اليوم الثّاني والثّالث ، فكذا صلاة العيد ، لأنّها معروفة بوقت الأضحيّة فتتقيّد بأيّامها .
وهذا بالنّسبة للجماعة ، أمّا المنفرد إذا فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه ، هذا مذهب الحنفيّة . ومثله الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون صلاتها في كلّ أيّام التّشريق وفيما بعد أيّام التّشريق ، ويعتبرونها قضاءً لا أداءً . وعند المالكيّة قال في المدوّنة : من فاتته صلاة العيد مع الإمام يستحبّ له أن يصلّيها من غير إيجابٍ ، وقال ابن حبيبٍ : إن فاتت صلاة العيد جماعةً ، فأرادوا أن يصلّوا بجماعتهم فلا بأس أن يجمعها مع نفرٍ من أهله ، قال سحنون : لا أرى أن يجمعوا ، وإن أحبّوا صلّوا أفذاذاً .
ج - الصّوم في أيّام التّشريق :
10- من الأيّام الّتي نهى عن الصّيام فيها أيّام التّشريق ، ففي صحيح مسلمٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّامُ منًى أيّامُ أكلٍ وشربٍ وذكر للّه » إلاّ أنّه يجوز للمتمتّع أو القارن الّذي لم يجد الهدي أن يصوم هذه الأيّام ، لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنّهما قالا : « لم يرخّص في أيّام التّشريق أن يُصَمْن إلاّ لمن لم يجد الهدي » .
وهذا عند الحنابلة والمالكيّة ، وفي القديم عند الشّافعيّة ، وروي عن الإمام أحمد أنّه لا يجوز صيام أيّام التّشريق عن الهدي .
وعند الحنفيّة ، وفي الجديد عند الشّافعيّة : لا يجوز صومها للنّهي الوارد في ذلك .
ومن نذر صوم سنةٍ لم يدخل في نذره أيّام التّشريق ، وأفطر ولا قضاء عليه ، لأنّه مستحقّ للفطر ولا يتناولها النّذر
وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة ، وهو قول زفر ورواية أبي يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة ، وروى محمّد عن أبي حنيفة أنّه يصحّ نذره في هذه الأيّام ، لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم في أيّامٍ أخر ، ولو صام في هذه الأيّام يكون مسيئاً لكنّه يخرج عن النّذر .
وروي عن الإمام مالكٍ أنّه يجوز صوم اليوم الثّالث من أيّام التّشريق لمن نذره .
ح - الخطبة في الحجّ في أيّام التّشريق :
11- يستحبّ أن يخطب الإمام في اليوم الثّاني من أيّام التّشريق خطبةً يعلّم النّاس فيها حكم التّعجيل والتّأخير وتوديعهم ، لما روي عن « رجلين من بني بكرٍ قالا : رأينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيّام التّشريق ونحن عند راحلته » .
وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والحنفيّة - غير زفر - تكون الخطبة في اليوم الأوّل من أيّام التّشريق ، وهو ثاني أيّام النّحر .
خ - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق :
12 - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق واجب عند جمهور الفقهاء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، قالت السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق » وقال ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : « لم يرخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأحدٍ أن يبيت بمكّة إلاّ للعبّاس من أجل سقايته » ، وروى الأثرم عن ابن عمر قال :" لا يبيتنّ أحد من الحاجّ إلاّ بمنًى ، وكان يبعث رجالاً لا يَدَعُون أحداً يبيت وراء العقبة ".
وعند الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة ، وروايةً عن الإمام أحمد : أنّ المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق سنّة وليس بواجبٍ ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رخّص للعبّاس أن يبيت بمكّة من أجل سقايته » ولو كان ذلك واجباً لم يكن للعبّاس أن يترك الواجب لأجل السّقاية ، ولا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرخّص له في ذلك ، وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم محمول على السّنّة توفيقاً بين الدّليلين .
ومن ترك المبيت بمنًى ليلةً أو أكثر من ليالي أيّام التّشريق فعند الجمهور عليه دم لتركه الواجب ، وعند القائلين بأنّ المبيت سنّة فقد أساء لتركه السّنّة ولا شيء عليه .
والمبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق كلّها إنّما هو بالنّسبة لغير المتعجّل ، أمّا من تعجّل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط ، ولا إثم عليه في ترك مبيت اللّيلة الثّالثة للآية الكريمة . ويرخّص في ترك المبيت بمنًى للسّقاة والرّعاة ، لحديث ابن عمر « أنّ العبّاس استأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكّة ليالي منًى من أجل سقايته فأذن له » ولحديث مالكٍ : « رخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النّحر ، ثمّ يجمعوا رمي يومين بعد يوم النّحر ، فيرمونه في أحدهما » قال مالك : ظننت أنّه قال : في يومٍ منهما ، ثمّ يرمون يوم النّفر . والمريض ، ومن له مال يخاف عليه ونحوه ، كغيره من السّقاة والرّعاة ، وفي رواية ابن نافعٍ عن الإمام مالكٍ : أنّ من ترك المبيت بمنًى لضرورةٍ ، كخوفه على متاعه عليه هدي ، وإن لم يأثم . وتفصيل ذلك في مصطلح ( حجٍّ ، ورميٍ ) .
د - التّكبير في أيّام التّشريق :
13 - التّكبير في أيّام التّشريق مشروع لقوله تعالى : { واذكروا اللّهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ } ، والمراد أيّام التّشريق ، وهذا باتّفاق الفقهاء ، عدا أبا حنيفة فإنّه لا تكبير عنده في أيّام التّشريق .
ومع اتّفاق الفقهاء على مشروعيّة التّكبير في أيّام التّشريق ، فإنّهم يختلفون في حكمه ، فعند الحنابلة والشّافعيّة وبعض الحنفيّة هو سنّة لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك . وهو مندوب عند المالكيّة ، والصّحيح عند الحنفيّة أنّه واجب ، للأمر به في قوله تعالى : { واذْكروا اللّهَ في أيّامٍ معدوداتٍ } .
كذلك اختلف الفقهاء في وقت التّكبير ، فبالنّسبة للبدء فإنّه باتّفاق الفقهاء يكون قبل بداية أيّام التّشريق ، مع اختلافهم في كونه من ظهر يوم النّحر كما يقول المالكيّة وبعض الشّافعيّة ، أو من فجر يوم عرفة كما يقول الحنابلة وعلماء الحنفيّة في ظاهر الرّواية وفي قولٍ للشّافعيّة . وأمّا بالنّسبة للختم فعند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة والمالكيّة يكون إلى عصر آخر أيّام التّشريق .
والمعتمد عند المالكيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة يكون إلى صبح آخر أيّام التّشريق . وقال ابن بشيرٍ من المالكيّة : يكون إلى ظهر آخر أيّام التّشريق . والتّكبير في هذه الأيّام يكون عقيب الصّلوات المفروضة ، ولا يكون بعد النّافلة ، إلاّ في قولٍ للشّافعيّة .
وما فات من الصّلوات في أيّام التّشريق فقضي فيها فإنّه يكبّر خلفها ، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة وفي وجهٍ عند الشّافعيّة .
أمّا إن قضى في غيرها فلا يكبّر خلفها باتّفاقٍ .
وما فات من الصّلوات في غير أيّام التّشريق فقضي فيها ، فعند الحنابلة يكبّر خلفها .
ولا تكبير خلف مقضيّةٍ مطلقاً عند المالكيّة .
وصفة التّكبير هو أن يقول : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ، اللّه أكبر ، وللّه الحمد . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والشّافعيّة يكبّر ثلاثاً في الأوّل . وفي موضوع التّكبير تفصيلات أخرى تنظر في : ( تكبيرٍ - عيدٍ ) .
=============
أيّام منًى *
التّعريف :
1 - أيّام منًى أربعة هي : يوم النّحر وثلاثة أيّامٍ بعده ، وهي الحادي عشر ، والثّاني عشر ، والثّالث عشر من ذي الحجّة . وقد أطلق عليها هذا الاسم لعودة الحجّاج إلى منًى بعد طواف الإفاضة في اليوم العاشر من ذي الحجّة ، والمبيت بها ليالي هذا الأيّام الثّلاثة . كما أنّه يطلق على هذه الأيّام أيّام منًى ، فإنّه يطلق عليها كذلك أيّام الرّمي ، وأيّام التّشريق ، وأيّام رمي الجمار ، والأيّام المعدودات . كلّ هذه الأسماء واقعة عليها ، ويعبّر بها الفقهاء ، إلاّ أنّه اشتهر التّعبير عندهم بأيّام التّشريق أكثر من غيره .
الحكم الإجماليّ :
2 - لأيّام منًى أحكام تتعلّق بها ، كالمبيت بمنًى في هذه الأيّام ، ورمي الجمار فيها .
وقد ذكر تفصيل هذه الأحكام في مصطلح أيّام التّشريق ، نظراً لشهرة هذه الأيّام بها .
( ر : أيّام ، التّشريق ) .
أُنُوثَةٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْأُنُوثَةُ خِلَافُ الذُّكُورَةِ , وَالْأُنْثَى - كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ - خِلَافُ الذَّكَرِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } , وَتُجْمَعُ عَلَى إنَاثٍ وَأَنَاثَى , وَامْرَأَةٌ أُنْثَى . أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا . وَالْأُنْثَيَانِ : الْخُصْيَتَانِ . ( ر : خِصَاءٌ ) . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى . هَذَا , وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلْأُنُوثَةِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنْ الذُّكُورَةِ فَضْلًا عَنْ أَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ , وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ إمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ , وَإِمَّا مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ . وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( خُنْثَى ) .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ )
: الْخُنُوثَةُ :
2 - الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ . وَتَذْكُرُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ , فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ : الْخُنْثَى ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَالِ , وَضَرْبٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( خُنْثَى ) . أَحْكَامُ الْأُنُوثَةِ أُنْثَى الْآدَمِيِّ : أَوَّلًا : تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى : يَتَمَثَّلُ تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى فِيمَا يَأْتِي : حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهَا :
3 - كَانَ اسْتِقْبَالُ الْأُنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ اسْتِقْبَالًا سَيِّئًا , يَتَبَرَّمُونَ بِهَا , وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ , وَيَتَوَارَوْنَ عَنْ الْأَعْيُنِ , إذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ , فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً , وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لَا يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ , فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ , وَذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ , وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ , { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } . وَنَبَّهَ الْإِسْلَامُ إلَى أَنَّ حَقَّ الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } . قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ : قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ , أَيْ هَذَا النَّوْعَ الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالْإِنَاثِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . وَقَالَ قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ , فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ , وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ , وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ ; لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمْ اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ , وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ . وَالْإِسْلَامُ لَا يَكْتَفِي مِنْ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ الْبَنَاتِ , بَلْ يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى , فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ , وَيَتَلَقَّى وِلَادَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالِانْقِبَاضِ , بَلْ يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ , قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : كَانَ أَحْمَدُ إذَا وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُولُ : الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ , وَيَقُولُ : قَدْ جَاءَ فِي الْبَنَاتِ مَا عَلِمْت .
الْعَقُّ عَنْهَا :
4 - الْعَقِيقَةُ عَنْ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ , وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنْ الذَّكَرِ يَوْمَ السَّابِعِ يَعُقُّ عَنْ الْأُنْثَى أَيْضًا , وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنْ الْأُنْثَى شَاةٌ , وَعَنْ الذَّكَرِ شَاتَانِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي ( عَقِيقَةٍ ) .
تَسْمِيَتهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ :
5 - مِنْ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ , وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنْ الْقَبِيحِ إلَى الْحَسَنِ , فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الْإِنَاثِ مِنْ الْقَبِيحِ إلَى الْحَسَنِ , فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ { ابْنَةً لِعُمَرَ رضي الله تعالى عنه كَانَ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَةٌ } . وَالْكُنْيَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ , يَقُولُ النَّوَوِيُّ : مِنْ الْأَدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ بِالْكُنْيَةِ , وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي الْقَاسِمِ , بِابْنِهِ الْقَاسِمِ . وَالْكُنْيَةُ كَمَا تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلْأُنْثَى . قَالَ النَّوَوِيُّ : رَوَيْنَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ { عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى , قَالَ : فَاكْتَنِّي بِابْنِك عَبْدِ اللَّهِ } قَالَ الرَّاوِي . يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ , وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى بِي عَبْدِ اللَّهِ .
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ :
6 - جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأُنْثَى نَصِيبًا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ , وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْإِنَاثَ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أَيْ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ , فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : { نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } . الْآيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ , وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ , فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا , وَلَا يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ , قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَك فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا , وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا , وَلَا يُنْكَحَانِ إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ , فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ , فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ : أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ , وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ , وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَك } .
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا , وَعَدَمُ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَيْهَا :
7 - يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِالْأُنْثَى فِي كُلِّ أَطْوَارِ حَيَاتِهَا فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ , وَيَجْعَلُ رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنْ النَّارِ وَسَبِيلًا إلَى الْجَنَّةِ . فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ عَالَ جَارَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ , وَضَمَّ أَصَابِعَهُ } . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالْعِنَايَةِ , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ يَعْنِي الذُّكُورَ عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ } . وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ , ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : فَمَا عَدَلْت بَيْنَهُمَا } . وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَبْطُلُ الْوَقْفُ إذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَتَشْمَلُ الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ , فَيُسْتَثْنَى مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ , وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ ; لِأَنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ الْأَطْفَالِ , وَقَدْ { كَانَ لِعَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها جَوَارٍ يُلَاعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ , فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَرِيهَا لَهَا } . ( ر : تَصْوِيرٌ ) .
إكْرَامُ الْأُنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً :
8 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَالَ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ , وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ , كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ , قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي } , وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ , يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ , حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله تعالى عنها يَتَوَدَّدُ إلَيْهَا بِذَلِكَ , قَالَتْ : سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْته وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ , ثُمَّ سَابَقْته بَعْدَمَا حَمَلْت اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ " , وَ " كَانَ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ " . وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ , أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ , وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً , إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ } . هَذَا , وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ , وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ , يَتَّصِلُ بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الْأُنْثَى , فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوِصَايَةِ بِالْأُمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الْأَبِ , رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك } . وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِضَاهَا طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ , فَقَدْ { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْت الْغَزْوَ وَجِئْت أَسْتَشِيرُك , فَقَالَ : فَهَلْ لَك مِنْ أُمٍّ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَالْزَمْهَا , فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا } .
ثَانِيًا : الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُلِ : تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلَاءَمُ مَعَ طَبِيعَتِهَا .
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ :
أ - حَقُّ التَّعْلِيمِ :
9 - لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْلُ الرَّجُلِ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } . وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا , فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ : قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ( وَمُسْلِمَةٍ ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا , وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا , وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنْ النَّارِ } . وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْعَيْنَ إلَى الْعِلْمِ . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : غَلَبَنَا عَلَيْك الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِك , فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ } . وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ , وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ , وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ , ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا , وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ , وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا , وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ , وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ , وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ تَكُونُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ , وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِلْأُمِّ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ ; لِكَوْنِهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ . وَمِنْ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ الرِّجَالُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ . جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ , لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا , لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا , فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِيهَا وَلَا امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إذَا عُلِّمَتْ , وَخِيفَ عَلَيْهَا الْبَلَاءُ أَوْ الْوَجَعُ أَوْ الْهَلَاكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ , ثُمَّ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ , وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إلَّا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
10 - وَإِذَنْ , فَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الْأُنْثَى . لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنْ النَّوَاحِي الْآتِيَةِ :
أ - أَنْ تَحْذَرَ الِاخْتِلَاطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ , فَلَا تَجْلِسْ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُلِ , فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ الرِّجَالِ يَعِظُهُنَّ فِيهِ . بَلْ حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ , بَلْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَمِعْنَ إلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلَاةَ , وَلَا يَجِبُ اسْتِحْدَاثُ مَكَان خَاصٍّ لِصَلَاتِهِنَّ , أَوْ إقَامَةِ حَاجِزٍ بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَالِ . ب - أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةً بِزِينَتِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَمِنْ إشَاعَةِ الْفَسَادِ .
ب - أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ :
11 - الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الرَّجُلِ , وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ , وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ ; لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ , وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ . وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ - زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ - مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ . فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى . يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ , فَنَزَلَتْ } . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا نُذْكَرُ ؟ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } . وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ , وَيَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ . وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الْإِثْمِ كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } . وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَالرَّجُلِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبِلَادَ . يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : إذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ; لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ . وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ . وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي ( حَيْضٌ , حَمْلٌ , نِفَاسٌ , رَضَاعٌ ) . ج - احْتِرَامُ إرَادَتِهَا :
12 - لِلْأُنْثَى حُرِّيَّةُ الْإِرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِهَا , وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا مِنْهُ , فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْئًا , وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَالَ زَوْجِهَا . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قَالَ : كَانُوا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ , إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا , وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ , وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ , وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ , وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلَّا تَنْكِحَ إلَّا مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا , فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ , تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ , فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ , فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْت زَوْجِي , وَلَا أَنَا تُرِكْت فَأُنْكَحَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ , وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ . وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ : { لَا تُنْكَحْ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ , وَلَا تُنْكَحْ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ } . وَالِاسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهَا , عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ . وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إذَا أَنْكَحَهُنَّ } . وَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . بَلْ إنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . جَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ : عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ , حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ , وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوْ الْوَكَالَةِ , وَكَذَا إذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا , أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ , وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ , فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم } وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه فَأَجَازَ النِّكَاحَ . هَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ , وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ ; لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا , وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ , كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا . هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ , وَتَفْصِيلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا يَنْظُر فِي ( نِكَاحٍ ) .
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَلْ وَمُعَارَضَتُهُ
, { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَاَللَّهُ إنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ , وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ , قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إذْ قَالَتْ امْرَأَتِي : لَوْ صَنَعْت كَذَا وَكَذَا , قَالَ : فَقُلْت لَهَا : مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا , فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ؟ فَقَالَتْ لِي : عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ , وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ , فَقَالَ لَهَا : يَا بُنَيَّةُ إنَّك لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ : وَاَللَّهِ إنَّا لَنُرَاجِعُهُ . فَقُلْت : تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُك عُقُوبَةَ اللَّهِ , وَغَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ : خَرَجَتْ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا , فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , دَخَلْت فِي كُل