صفات المؤذّن ما يشترط فيه من الصّفات : الإسلام :
29 - إسلام المؤذّن شرط لصحّته ، فلا يصحّ أذان الكافر ؛ لأنّه ليس من أهل العبادة ؛ ولأنّه لا يعتقد الصّلاة الّتي يعتبر الأذان دعاءً لها ، فإتيانه بالأذان ضرب من الاستهزاء ، وهذا باتّفاق ، ولا يعتدّ بأذانه ، وفي حكم إسلامه لو أذّن ينظر مصطلح : ( إسلام ) .
الذّكورة :
30 - من الشّروط الواجبة في المؤذّن أن يكون رجلاً ، فلا يصحّ أذان المرأة ؛ لأنّ رفع صوتها قد يوقع في الفتنة ، وهذا عند الجمهور في الجملة ، ولا يعتدّ بأذانها لو أذّنت . واعتبر الحنفيّة الذّكورة من السّنن ، وكرهوا أذان المرأة ، واستحبّ الإمام أبو حنيفة إعادة الأذان لو أذّنت ، وفي البدائع : لو أذّنت للقوم أجزأ ، ولا يعاد ، لحصول المقصود ، وأجاز بعض الشّافعيّة أذانها لجماعة النّساء دون رفع صوتها .
العقل :
31 - يشترط في المؤذّن أن يكون عاقلاً ، فلا يصحّ الأذان من مجنون وسكران لعدم تمييزهما ، ويجب إعادة الأذان لو وقع منهما ؛ لأنّ كلامهما لغو ، وليسا في الحال من أهل العبادة ، وهذا عند الجمهور ، وكره الحنفيّة أذان غير العاقل ، واستحبّ في ظاهر الرّواية إعادة أذانه .
البلوغ :
32 - الصّبيّ غير العاقل ( أي غير المميّز ) لا يجوز أذانه باتّفاق ؛ لأنّ ما يصدر منه لا يعتدّ به ، أمّا الصّبيّ المميّز فيجوز أذانه عند الحنفيّة ( مع كراهته عند أبي حنيفة ) والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهو أيضاً مذهب المالكيّة إذا اعتمد على بالغ عدل في معرفة دخول الوقت .
ما يستحبّ أن يتّصف به المؤذّن :
33 - يستحبّ أن يكون المؤذّن طاهراً من الحدث الأصغر والأكبر ؛ لأنّ الأذان ذكر معظّم ، فالإتيان به مع الطّهارة أقرب إلى التّعظيم ، ولحديث أبي هريرة مرفوعاً : « لا يؤذّن إلاّ متوضّئ » ، ويجوز أذان المحدث مع الكراهة بالنّسبة للحدث الأكبر عند جميع الفقهاء ، وعند المالكيّة والشّافعيّة بالنّسبة للحدث الأصغر كذلك .
34 - ويستحبّ أن يكون عدلاً ؛ لأنّه أمين على المواقيت ، وليؤمّن نظره إلى العورات . ويصحّ أذان الفاسق مع الكراهة ، وفي وجه عند الحنابلة لا يعتدّ بأذان ظاهر الفسق ؛ لأنّه لا يقبل خبره ، وفي الوجه الآخر يعتدّ بأذانه ؛ لأنّه تصحّ صلاته بالنّاس ، فكذا أذانه .
35 - ويستحبّ أن يكون صيّتاً ، أي حسن الصّوت ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن زيد : فقم مع بلال ، فألق عليه ما رأيت ، فإنّه أندى صوتاً منك » ؛ ولأنّه أبلغ في الإعلام ، هذا مع كراهة التّمطيط والتّطريب .
36 - ويستحبّ أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال الأذان ؛ لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بذلك وقال : إنّه أرفع لصوتك » .
37 - ويستحبّ أن يؤذّن قائماً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبلال : « قم فأذّن بالصّلاة » ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه أنّه من السّنّة ؛ لأنّه أبلغ في الإسماع . ولا يؤذّن قاعداً إلاّ لعذر ، أو كان الأذان لنفسه كما يقول الحنفيّة ، ويكره أن يؤذّن راكباً إلاّ في سفر ، وأجاز أبو يوسف والمالكيّة أذان الرّاكب في الحضر 38 - ويستحبّ أن يكون عالماً بأوقات الصّلاة ؛ ليتحرّاها فيؤذّن في أوّلها ، حتّى كان البصير أفضل من الضّرير ، لأنّ الضّرير لا علم له بدخول الوقت 39 - ويستحبّ أن يكون المؤذّن هو المقيم ؛ لما ورد في حديث « زياد بن الحارث الصّدائيّ ، حين أذّن فأراد بلال أن يقيم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ أخا صداء قد أذّن ، ومن أذّن فهو يقيم » .
40 - ويستحبّ أن يؤذّن محتسباً ، ولا يأخذ على الأذان أجراً ؛ لأنّه استئجار على الطّاعة ، وقد ورد في الخبر : « من أذّن سبع سنين محتسباً كتبت له براءة من النّار » ، وإذا لم يوجد متطوّع رزق الإمام من بيت المال من يقوم به ؛ لحاجة المسلمين إليه . 41 - وبالنّسبة للإجارة على الأذان فقد أجازه متأخّرو الحنفيّة ، للحاجة إليه ، وأجازه كذلك الإمام مالك وبعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ( ر : إجارة ) .
ما يشرع له الأذان من الصّلوات :
42 - الأصل أنّ الأذان شرع للصّلوات المفروضة في حال الحضر والسّفر والجماعة والانفراد ، أداءً وقضاءً ، وهذا باتّفاق ، إلاّ ما قاله المالكيّة من أنّه يكره الأذان للفائتة ، وما قاله بعضهم من أنّه لا أذان في الحضر للمنفرد ، وللجماعة غير المسافرة المجتمعين بموضع ولا يريدون دعاء غيرهم ؛ لأنّ الأذان إنّما جعل ليدعى به الغائب ، ولا غائب حتّى يدعى . ويندب لهم الأذان في السّفر ويتفرّع على هذا الأصل بعض الفروع الّتي اختلف فيها الفقهاء وهي : الأذان للفوائت :
43 - سبق أنّ مذهب المالكيّة كراهة الأذان للفوائت ، وأمّا غيرهم فإنّ الفائتة الواحدة يؤذّن لها عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ؛ لما روى أبو قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه وفيه قال : « فمال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الطّريق ، فوضع رأسه ، ثمّ قال : احفظوا علينا صلاتنا ، فكان أوّل من استيقظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والشّمس في ظهره . قال : فقمنا فزعين . ثمّ قال : اركبوا فركبنا ، فسرنا ، حتّى إذا ارتفعت الشّمس نزل . ثمّ دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء . قال فتوضّأ منها وضوءاً دون وضوء . قال : وبقي فيها شيء من ماء . ثمّ قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك ، فسيكون لها نبأ ثمّ أذّن بلال بالصّلاة ، فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثمّ صلّى الغداة ، فصنع كما كان يصنع كلّ يوم » .
44 - أمّا إذا تعدّدت الفوائت فعند الحنفيّة : الأولى أن يؤذّن ويقيم لكلّ صلاة ، وعند الحنابلة وهو المعتمد عند الشّافعيّة يستحبّ أن يؤذّن للأولى فقط ويقيم لما بعدها ، وذلك جائز عند الحنفيّة أيضاً . وقد اختلفت الرّوايات في قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصّلوات الّتي فاتته يوم الخندق ، ففي بعضها أنّه أمر بلالاً ، فأذّن وأقام لكلّ صلاة ، وفي بعضها أنّه أذّن وأقام للأولى ، ثمّ أقام لكلّ صلاة بعدها ، وفي بعضها أنّه اقتصر على الإقامة لكلّ صلاة . وبهذه الرّواية الأخيرة أخذ الشّافعيّ على ما جاء في الأمّ ، ولكن المعتمد في المذهب خلاف ذلك ، وورد عن الشّافعيّ في الإملاء أنّه إن أمل اجتماع النّاس أذّن وأقام ، وإن لم يؤمّل أقام ؛ لأنّ الأذان يراد لجمع النّاس ، فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه .
الأذان للصّلاتين المجموعتين :
45 - إذا جمعت صلاتان في وقت إحداهما ، كجمع العصر مع الظّهر في وقت الظّهر بعرفة ، وكجمع المغرب مع العشاء بمزدلفة ، فإنّه يؤذّن للأولى فقط ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين » . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ، وهو قول بعض المالكيّة ، ولكن الأشهر عندهم أنّه يؤذّن لكلّ صلاة منهما .
الأذان في مسجد صلّيت فيه الجماعة
46 - لو أقيمت جماعة في مسجد فحضر قوم لم يصلّوا فالصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يسنّ لهم الأذان دون رفع الصّوت لخوف اللّبس - سواء أكان المسجد مطروقاً أم غير مطروق ، وعند الحنابلة يستوي الأمر ، إن أرادوا أذّنوا وأقاموا ، وإلاّ صلّوا بغير أذان ، وقد روي عن أنس أنّه دخل مسجداً قد صلّوا فيه فأمر رجلاً فأذّن وأقام فصلّى بهم في جماعة . ويفصّل الحنفيّة فيقولون : إن كان المسجد له أهل معلومون وصلّى فيه غير أهله بأذان وإقامة لا يكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن صلّى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله يكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن كان المسجد ليس له أهل معلومون بأن كان على الطّريق لا يكره تكرار الأذان والإقامة فيه . ويقول المالكيّة : من أتى بعد صلاة الجماعة صلّى بغير أذان .
تعدّد المؤذّنين :
47 - يجوز أن يتعدّد المؤذّن في المسجد الواحد ، ولا يستحبّ الزّيادة على اثنين ؛ لأنّ الّذي حفظ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان له مؤذّنان بلال وابن أمّ مكتوم ، إلاّ أن تدعو الحاجة إلى الزّيادة عليهما فيجوز ، فقد روي عن عثمان أنّه كان له أربعة مؤذّنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من ذلك كان مشروعاً . وكيفيّة أذانهم أنّه إذا كان الواحد يسمع النّاس فالمستحبّ أن يؤذّن واحد بعد واحد ، لأنّ مؤذّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذّن بعد الآخر ، وإذا كان الإعلام لا يحصل بواحد أذّنوا بحسب ما يحتاج إليه ، إمّا أن يؤذّن كلّ واحد في منارة أو ناحية أو أذّنوا دفعةً واحدةً في موضع واحد ، وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أوّل الوقت أذّنوا جميعاً دفعةً واحدةً .
ما يعلن به عن الصّلوات الّتي لم يشرع لها الأذان :
48 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذان إنّما شرع للصّلوات المفروضة ، ولا يؤذّن لصلاة غيرها كالجنازة والوتر والعيدين وغير ذلك ؛ لأنّ الأذان للإعلام بدخول وقت الصّلاة ، والمكتوبات هي المخصّصة بأوقات معيّنة ، والنّوافل تابعة للفرائض ، فجعل أذان الأصل أذاناً للتّبع تقديراً ، أمّا صلاة الجنازة فليست بصلاة على الحقيقة ، إذ لا قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود . وممّا ورد في ذلك ما في مسلم عن جابر بن سمرة قال : « صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّة ولا مرّتين بغير أذان ولا إقامة » .
49 - أمّا كيفيّة النّداء لهذه الصّلوات الّتي لا أذان لها فقد ذكر الشّافعيّة أنّه بالنّسبة للعيدين والكسوف والاستسقاء والتّراويح إذا صلّيت جماعةً - وفي وجه للشّافعيّة بالنّسبة لصلاة الجنازة - فإنّه ينادى لها : الصّلاة جامعة ، وهو رأي الحنابلة بالنّسبة للعيد والكسوف والاستسقاء ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة لصلاة الكسوف ، وعند بعض المالكيّة بالنّسبة لصلاة العيدين ، واستحسن عياض ما استحسنه الشّافعيّ ، وهو أن ينادى لكلّ صلاة لا يؤذّن لها : الصّلاة جامعة . وممّا استدلّ به الفقهاء حديث عائشة قالت : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي الصّلاة جامعة » .
إجابة المؤذّن والدّعاء بعد الإجابة
50 - يسنّ لمن سمع الأذان متابعته بمثله ، وهو أن يقول مثل ما يقول ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول المؤذّن » ويسنّ أن يقول عند الحيعلة : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . فقد روى عمر بن الخطّاب ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر اللّه أكبر فقال أحدكم : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . ثمّ قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . ثمّ قال : حيّ على الصّلاة . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : حيّ على الفلاح . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : لا إله إلاّ اللّه . قال : لا إله إلاّ اللّه ، من قلبه - دخل الجنّة » . ولأنّ حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح خطاب فإعادته عبث . وفي التّثويب وهو قول : « الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر يقول : صدقت وبررت - بكسر الرّاء الأولى - ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يقول : اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته . والأصل في ذلك حديث ابن عمر مرفوعاً : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى اللّه عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا اللّه لي الوسيلة ، فإنّها منزلة في الجنّة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد اللّه ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة » ، ثمّ يدعو بعد الأذان بما شاء ، لحديث أنس مرفوعاً : « الدّعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة » " ، ويقول عند أذان المغرب : اللّهمّ هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي . ولو سمع مؤذّناً ثانياً أو ثالثاً استحبّ له المتابعة أيضاً . وما سبق هو باتّفاق إلاّ أنّ المشهور عند المالكيّة أن يحكي السّامع لآخر الشّهادتين فقط ، ولا يحكي التّرجيع ، ولا يحكي الصّلاة خير من النّوم ولا يبدّلها بصدقت وبررت ، ومقابل المشهور أنّه يحكي لآخر الأذان .
الأذان لغير الصّلاة :
51 - شرع الأذان أصلاً للإعلام بالصّلاة إلاّ أنّه قد يسنّ الأذان لغير الصّلاة تبرّكاً واستئناساً أو إزالةً لهمّ طارئ والّذين توسّعوا في ذكر ذلك هم فقهاء الشّافعيّة فقالوا : يسنّ الأذان في أذن المولود حين يولد ، وفي أذن المهموم فإنّه يزيل الهمّ ، وخلف المسافر ، ووقت الحريق ، وعند مزدحم الجيش ، وعند تغوّل الغيلان وعند الضّلال في السّفر ، وللمصروع ، والغضبان ، ومن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة ، وعند إنزال الميّت القبر قياساً على أوّل خروجه إلى الدّنيا . وقد رويت في ذلك بعض الأحاديث منها ما روى أبو رافع : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة » ، كذلك روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ولد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضرّه أمّ الصّبيان » . وروى أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الشّيطان إذا نودي بالصّلاة أدبر » ... إلخ . وقد ذكر الحنابلة مسألة الأذان في أذن المولود فقط ونقل الحنفيّة ما ذكره الشّافعيّ ولم يستبعدوه ، قال ابن عابدين : لأنّ ما صحّ فيه الخبر بلا معارض مذهب للمجتهد وإن لم ينصّ عليه ، وكره الإمام مالك هذه الأمور واعتبرها بدعةً ، إلاّ أنّ بعض المالكيّة نقل ما قاله الشّافعيّة ثمّ قالوا : لا بأس بالعمل به .
=================
أذن
التّعريف
1 - الأذن : بضمّ الذّال وسكونها ، عضو السّمع ، وهو معنًى متّفق عليه بين الفقهاء وأهل اللّغة . وإذا كانت الأذن عضو السّمع ، فإنّ السّمع هو إدراك الأصوات المسموعة وشتّان ما بينهما . الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - الأذن عضو السّمع ، وفي الجسد منه اثنتان في العادة . ويترتّب على ذلك أحكام هي : أ - يطلب الأذان في أذن المولود اليمنى ، والإقامة في أذنه اليسرى ، ليكون الأذان بما فيه من التّوحيد الخالص أوّل ما يقرع سمعه ، وقد ورد الحديث الشّريف بذلك ، ويذكر الفقهاء هذا غالباً في الأذان عند كلامهم على المواطن الّتي يسنّ فيها الأذان ، وذكره بعضهم في الأضحيّة عند كلامهم على العقيقة .
ب - يرى الفقهاء عدم إباحة سماع المنكر ، ويرون وجوب كفّ السّمع عن سماعه ، حتّى إذا مرّ المرء بمكان لا مناص له من المرور فيه ، وفيه شيء من هذه المنكرات ، وضع أصابعه في آذانه لئلاّ يسمع شيئاً منها . كما فعل ابن عمر رضي الله عنه ، فقد روى نافع قال : إنّ ابن عمر سمع صوت مزمار راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطّريق وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتّى قلت : لا ، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطّريق وقال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع زمّارة راع فصنع مثل هذا » .
ج - وإذا كانت الأذن غير السّمع وهي آلته ، فإنّ الجناية على الأذن الواحدة توجب القصاص في العمد ، ونصف الدّية في الخطأ حتّى ولو بقي السّمع سليماً . فإن ذهب السّمع أيضاً مع الأذن بجناية واحدة لم يجب أكثر من نصف الدّية . وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات ، وفي الدّيات .
هل الأذنان من الرّأس ؟
3 - في اعتبار الأذنين من الرّأس أو من الوجه خلاف بين الفقهاء ويترتّب على ذلك الاختلاف في حكم مسح الأذنين ، هل هو واجب أم غير واجب ؟ وهل يجزئ مسحهما بماء الرّأس أم لا يجزئ ؟ وفصّل الفقهاء القول في ذلك في كيفيّة المسح في باب الوضوء .
داخل الأذنين :
4 - اختلف الفقهاء في اعتبار داخل الأذن من الجوف . وبناءً على ذلك اختلفوا في إفطار الصّائم بإدخال شيء إلى باطن الأذن إذا لم يصل إلى حلقه . وفصّلوا الكلام في ذلك في كتاب الصّيام في باب ما يفطر الصّائم .
هل يعبّر بالأذن عن الجسد كلّه ؟
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن عضو من البدن لا يعبّر به عن الكلّ ، وفرّعوا على ذلك أنّ المرء إذا أضاف الظّهار أو الطّلاق أو العتق ونحوها إلى الأذن لا يقع ما قصد إليه . كما يؤخذ ذلك من كلامهم في الأبواب المذكورة .
هل الأذن من العورة ؟
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن في المرأة من العورة ، ولا يجوز إظهارها للأجنبيّ . وما اتّصل بها من الزّينة - كالقرط - هو من الزّينة الباطنة الّتي لا يجوز إظهارها أيضاً إلاّ ما حكاه القرطبيّ عن ابن عبّاس والمسور بن مخرمة وقتادة من اعتبار القرط من الزّينة الظّاهرة الّتي يجوز إظهارها . واتّفقوا كذلك على أنّ الأذن موضع للزّينة في المرأة دون الرّجل ، ولذلك أباحوا ثقب أذن الجارية لإلباسها القرط . وليس لذلك مكان محدّد في كتب الفقه ، وقد ذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة ، وذكره القليوبيّ في كتاب الصّيال ، وذكره بعضهم فيما يحقّ للوليّ فعله في الصّغير المولى عليه .
7 - واتّفق الفقهاء على عدم إجزاء مقطوعة الأذن في الأضحيّة والهدي ، واختلفوا فيما لو تعيّبت أذنها عيباً فاحشاً ، فأجازها البعض ولم يجزها البعض الآخر . ومحلّ تفصيل ذلك في كتاب الأضاحيّ من كتب الفقه .
8 - يستحبّ للمؤذّن أن يضع يديه في أذنيه أثناء الأذان . وقد نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الأذان عند كلامهم على ما يستحبّ للمؤذّن .
9 - ويسنّ للرّجل رفع يديه إلى حذاء أذنيه ، عند البعض ، في تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال في الصّلاة . وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة .
10 - ذكر الفقهاء أنّ وسم الحيوانات لغاية مشروعة - كعدم اختلاطها بغيرها - مباح ، ويرى الشّافعيّة أنّ أفضل مكان لوسم الغنم هو آذانها ، لقلّة الشّعر فيها . وقد ذكروا هذه المسألة في باب قسم الصّدقات .
11 - وما يسيل من الأذن في حالة المرض نجس ، وفي انتقاض الوضوء به خلاف بين الفقهاء مبنيّ على خلافهم في انتقاض الوضوء بكلّ خارج نجس من البدن ، وقد تكلّموا على ذلك في باب الوضوء عند كلامهم على نواقض الوضوء .
===============
أسطوانةٌ *
التعريف :
1 - الأسطوانة : السّارية في المسجد أو البيت أو نحوهما .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - في وقوف الإمام بين السّواري ، وفي صلاته إلى الأسطوانة خلافٌ . فقال أبو حنيفة ومالكٌ بالكراهة ، وذهب الجمهور إلى عدم الكراهة . وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة ، في مبحث ( صلاة الجماعة ) . أمّا المأمومون : فقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا لم تقطع الأسطوانة الصّفّ فلا كراهة لعدم الدّليل على ذلك . أمّا إذا قطعت ففيه خلافٌ . فالحنفيّة والمالكيّة لا يرون به بأساً ، لعدم الدّليل على المنع . والحنابلة يرون الكراهة ،« لما ورد من النّهي عن الصّفّ بين السّواري »إلاّ أن يكون الصّفّ قدر ما بين السّاريتين ، أو أقلّ فلا يكره . وقد ذكر الفقهاء ذلك أيضاً في صلاة الجماعة .
==============
أضحيّةٌ *
التعريف :
1 - الأضحيّة بتشديد الياء وبضمّ الهمزة أو كسرها ، وجمعها الأضاحيّ بتشديد الياء أيضاً ، ويقال لها : الضّحيّة بفتح الضّاد وتشديد الياء ، وجمعها الضّحايا ، ويقال لها أيضاً : الأضحاة بفتح الهمزة وجمعها الأضحى ، وهو على التّحقيق اسم جنسٍ جمعيٍّ ، وبها سمّي يوم الأضحى ، أي اليوم الّذي يضحّي فيه النّاس . وقد عرّفها اللّغويّون بتعريفين :
أحدهما : الشّاة الّتي تذبح ضحوةً ، أي وقت ارتفاع النّهار والوقت الّذي يليه ، وهذا المعنى نقله صاحب اللّسان عن ابن الأعرابيّ .
وثانيهما : الشّاة الّتي تذبح يوم الأضحى ، وهذا المعنى ذكره صاحب اللّسان أيضاً . أمّا معناها في الشّرع : فهو ما يذكّى تقرّباً إلى اللّه تعالى في أيّام النّحر بشرائط مخصوصةٍ . فليس ، من الأضحيّة ما يذكّى لغير التّقرّب إلى اللّه تعالى ، كالذّبائح الّتي تذبح للبيع أو الأكل أو إكرام الضّيف ، وليس منها ما يذكّى في غير هذه الأيّام ، ولو للتّقرّب إلى اللّه تعالى ، وكذلك ما يذكّى بنيّة العقيقة عن المولود ، أو جزاء التّمتّع أو القران في النّسك ، أو جزاء ترك واجبٍ أو فعل محظورٍ في النّسك ، أو يذكّى بنيّة الهدي كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - القربان :
2 - القربان : ما يتقرّب به العبد إلى ربّه ، سواءٌ أكان من الذّبائح أم من غيرها . والعلاقة العامّة بين الأضحيّة وسائر القرابين أنّها كلّها يتقرّب بها إلى اللّه تعالى ، فإن كانت القرابين من الذّبائح كانت علاقة الأضحيّة بها أشدّ ، لأنّها يجمعها كونها ذبائح يتقرّب بها إليه سبحانه ، فالقربان أعمّ من الأضحيّة .
ب - الهدي :
3 - الهدي : ما يذكّى من الأنعام في الحرم في أيّام النّحر لتمتّعٍ أو قرانٍ ، أو ترك واجبٍ من واجبات النّسك ، أو فعل محظورٍ من محظورات النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، أو لمحض التّقرّب إلى اللّه تعالى تطوّعاً . ويشترك الهدي مع الأضحيّة في أنّ كلاًّ منهما ذبيحةٌ ، ومن الأنعام ، وتذبح في أيّام النّحر ، ويقصد بها التّقرّب إلى اللّه تعالى . ويفترق الهدي ذو السّبب عن الأضحيّة افتراقاً ظاهراً ، فإنّ الأضحيّة لا تقع عن تمتّعٍ ولا قرانٍ ، ولا تكون كفّارةً لفعلٍ محظورٍ أو ترك واجبٍ . وأمّا الهدي الّذي قصد به التّقرّب المحض فإنّه يشتبه بالأضحيّة اشتباهاً عظيماً ، لا سيّما أضحيّة المقيمين بمنًى من أهلها ومن الحجّاج ، فإنّها ذبيحةٌ من الأنعام ذبحت في الحرم في أيّام النّحر تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وكلّ هذه الصّفات صفاتٌ للهدي فلا يفرّق بينهما إلاّ بالنّيّة ، فما نوي به الهدي كان هدياً ، وما نوي به التّضحية كان أضحيّةً . فإن قيل : إنّ النّيّة ليست نيّة ألفاظٍ ، وإنّما هي معانٍ ، فما هو المعنى الّذي يخطر ببال النّاوي ، حين ينوي الهدي ، وحين ينوي الأضحيّة حتّى تكون النّيّة فارقةً بينهما ؟ فالجواب : أنّ ناوي الهدي يخطر بباله الإهداء إلى الحرم وتكريمه ، وناوي الأضحيّة يخطر بباله الذّبح المختصّ بالأيّام الفاضلة من غير ملاحظة الإهداء إلى الحرم . هذا ، والمالكيّة يرون أنّ الحاجّ لا يضحّي كما سيأتي ، فيكون الفرق عندهم بين هدي التّطوّع والأضحيّة ظاهراً ، فإنّ ما يقوم به الحاجّ يكون هدياً ، وما يقوم به غير الحاجّ يكون أضحيّةً .
ج - العقيقة :
4 - العقيقة ما يذكّى من النّعم شكراً للّه تعالى على ما أنعم به ، من ولادة مولودٍ ، ذكراً كان أو أنثى ، ولا شكّ أنّها تخالف الأضحيّة الّتي هي شكرٌ على نعمة الحياة ، لا على الإنعام بالمولود ، فلو ولد لإنسانٍ مولودٌ في عيد الأضحى فذبح عنه شكراً على إنعام اللّه بولادته كانت الذّبيحة عقيقةً . وإن ذبح عنه شكراً للّه تعالى على إنعامه على المولود نفسه بالوجود والحياة في هذا الوقت الخاصّ ، كانت الذّبيحة أضحيّةً .
د - الفرع والعتيرة :
5 - الفرع بفتح الفاء والرّاء ، ويقال له الفرعة : أوّل نتاج البهيمة ، كان أهل الجاهليّة يذبحونه لطواغيتهم ، رجاء البركة في الأمّ وكثرة نسلها ، ثمّ صار المسلمون يذبحونه للّه تعالى . والعتيرة بفتح العين : ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يذبحونها في العشر الأول من رجبٍ لآلهتهم ويسمّونها العتر ( بكسرٍ فسكونٍ ) والرّجيبة أيضاً ، ثمّ صار المسلمون يذبحونها للّه تعالى من غير وجوبٍ ولا تقيّدٍ بزمنٍ . وعلاقة الأضحيّة بهما أنّهما يشتركان معها في أنّ الجميع ذبائح يتقرّب بها إلى اللّه عزّ وجلّ ، والفرق بينها وبينهما ظاهرٌ . فإنّ الفرع يقصد به شكراً للّه تعالى على أوّل نتاجٍ تنتجه النّاقة وغيرها ورجاء البركة فيها ، والعتيرة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى وقت ذبحها . والأضحيّة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى حلول الأيّام الفاضلة من ذي الحجّة الحرام . مشروعيّة الأضحيّة ودليلها :
6 - الأضحيّة مشروعةٌ إجماعاً بالكتاب والسّنّة : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } قيل في تفسيره : صلّ صلاة العيد وانحر البدن . وأمّا السّنّة فأحاديث تحكي فعله صلى الله عليه وسلم لها ، وأخرى تحكي قوله في بيان فضلها والتّرغيب فيها والتّنفير من تركها . فمن ذلك ما صحّ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّه قال : « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمّى وكبّر ، ووضع رجله على صفاحهما » . وأحاديث أخرى سيأتي بعضها منها قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » . وقد شرعت التّضحية في السّنة الثّانية من الهجرة النّبويّة ، وهي السّنة الّتي شرعت فيها صلاة العيدين وزكاة المال . أمّا حكمة مشروعيّتها ، فهي شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة ، وإحياء سنّة سيّدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره اللّه عزّ اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النّحر ، وأن يتذكّر المؤمن أنّ صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة اللّه ومحبّته على محبّة النّفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء ، فإذا تذكّر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصّبر على طاعة اللّه وتقديم محبّته عزّ وجلّ على هوى النّفس وشهوتها . وقد يقال : أيّ علاقةٍ بين إراقة الدّم وبين شكر المنعم عزّ وجلّ والتّقرّب إليه ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أنّ هذه الإراقة وسيلةٌ للتّوسعة على النّفس وأهل البيت ، وإكرام الجار والضّيف ، والتّصدّق على الفقير ، وهذه كلّها مظاهر للفرح والسّرور بما أنعم اللّه به على الإنسان ، وهذا تحدّثٌ بنعمة اللّه تعالى كما قال عزّ اسمه : { وأمّا بنعمة ربّك فحدّث } .
ثانيهما : المبالغة في تصديق ما أخبر به اللّه عزّ وجلّ من أنّه خلق الأنعام لنفع الإنسان ، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاماً له . فإذا نازعه في حلّ الذّبح والنّحر منازعٌ تمويهاً بأنّهما من القسوة والتّعذيب لذي روحٍ تستحقّ الرّحمة والإنصاف ، كان ردّه على ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ الّذي خلقنا وخلق هذه الحيوانات ، وأمرنا برحمتها والإحسان إليها ، أخبرنا وهو العليم بالغيب أنّه خلقها لنا وأباح تذكيتها ، وأكّد هذه الإباحة بأن جعل هذه التّذكية قربةً في بعض الأحيان .
حكم الأضحيّة :
7 - ذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أرجح القولين عند مالكٍ ، وإحدى روايتين عن أبو يوسف إلى أنّ الأضحيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ . وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وبلالٍ وأبي مسعودٍ البدريّ وسويد بن غفلة وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ وعلقمة والأسود وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأدلّةٍ : منها قوله عليه الصلاة والسلام : « إذا دخل العشر ، وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً » . ووجه الدّلالة في هذا الحديث أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « وأراد أحدكم » فجعله مفوّضاً إلى إرادته ، ولو كانت التّضحية واجبةً لاقتصر على قوله : « فلا يمسّ من شعره شيئاً حتّى يضحّي » . ومنها أيضاً أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحّيان السّنة والسّنتين ، مخافة أن يرى ذلك واجباً . وهذا الصّنيع منهما يدلّ على أنّهما علما من الرّسول صلى الله عليه وسلم عدم الوجوب ، ولم يرو عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك .
8 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّها واجبةٌ . وهذا المذهب هو المرويّ عن محمّدٍ وزفر وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف . وبه قال ربيعة واللّيث بن سعدٍ والأوزاعيّ والثّوريّ ومالكٌ في أحد قوليه . واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } فقد قيل في تفسيره صلّ صلاة العيد وانحر البدن ، ومطلق الأمر للوجوب ، ومتى وجب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجب على الأمّة لأنّه قدوتها . وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » ، وهذا كالوعيد على ترك التّضحية ، والوعيد إنّما يكون على ترك الواجب . وبقوله عليه الصلاة والسلام : « من ذبح قبل الصّلاة فليذبح شاةً مكانها ، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم اللّه » ، فإنّه أمر بذبح الأضحيّة وبإعادتها إذا ذكّيت قبل الصّلاة ، وذلك دليل الوجوب . ثمّ إنّ الحنفيّة القائلين بالوجوب يقولون : إنّها واجبةٌ عيناً على كلّ من وجدت فيه شرائط الوجوب . فالأضحيّة الواحدة كالشّاة وسبع البقرة وسبع البدنة إنّما تجزئ عن شخصٍ واحدٍ .
9 - وأمّا القائلون بالسّنّيّة فمنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ أيضاً ، كالقول المرويّ عن أبي يوسف فعنده لا يجزئ الأضحيّة الواحدة عن الشّخص وأهل بيته أو غيرهم . ومنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ ولو حكماً ، بمعنى أنّ كلّ واحدٍ مطالبٌ بها ، وإذا فعلها واحدٌ بنيّة نفسه وحده لم تقع إلاّ عنه ، وإذا فعلها بنيّة إشراك غيره في الثّواب ، أو بنيّة كونها لغيره أسقطت الطّلب عمّن أشركهم أو أوقعها عنهم . وهذا رأي المالكيّة ، وإيضاحه أنّ الشّخص إذا ضحّى ناوياً نفسه فقط سقط الطّلب عنه ، وإذا ضحّى ناوياً نفسه وأبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وقعت التّضحية عنهم ، ويجوز له أن يشرك غيره في الثّواب - قبل الذّبح - ولو كانوا أكثر من سبعةٍ بثلاث شرائط :
الأولى : أن يسكن معه .
الثّانية : أن يكون قريباً له وإن بعدت القرابة ، أو زوجةً .
الثّالثة : أن ينفق على من يشركه وجوباً كأبويه وصغار ولده الفقراء ، أو تبرّعاً كالأغنياء منهم وكعمٍّ وأخٍ وخالٍ . فإذا وجدت هذه الشّرائط سقط الطّلب عمّن أشركهم . وإذا ضحّى بشاةٍ أو غيرها ناوياً غيره فقط ، ولو أكثر من سبعةٍ ، من غير إشراك نفسه معهم سقط الطّلب عنهم بهذه التّضحية ، وإن لم تتحقّق فيهم الشّرائط الثّلاث السّابقة . ولا بدّ في كلّ ذلك أن تكون الأضحيّة ملكاً خاصّاً للمضحّي ، فلا يشاركوه فيها ولا في ثمنها ، وإلاّ لم تجزئ ، كما سيأتي في شرائط الصّحّة .
10 - ومن القائلين بالسّنّيّة من يجعلها سنّة عينٍ في حقّ المنفرد ، وسنّة كفايةٍ في حقّ أهل البيت الواحد ، وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة . فقد قالوا : إنّ الشّخص يضحّي بالأضحيّة الواحدة - ولو كانت شاةً - عن نفسه وأهل بيته .
وللشّافعيّة تفسيراتٌ متعدّدةٌ لأهل البيت الواحد والرّاجح تفسيران :
أحدهما : أنّ المقصود بهم من تلزم الشّخص نفقتهم ، وهذا هو الّذي رجّحه الشّمس الرّمليّ في نهاية المحتاج .
ثانيهما : من تجمعهم نفقة منفقٍ واحدٍ ولو تبرّعاً ، وهذا هو الّذي صحّحه الشّهاب الرّمليّ بهامش شرح الرّوض . قالوا : ومعنى كونها سنّة كفايةٍ - مع كونها تسنّ لكلّ قادرٍ منهم عليها - سقوط الطّلب عنهم بفعل واحدٍ رشيدٍ منهم ، لا حصول الثّواب لكلٍّ منهم ، إلاّ إذا قصد المضحّي تشريكهم في الثّواب . وممّا استدلّ به على كون التّضحية سنّة كفايةٍ عن الرّجل وأهل بيته حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال : « كنّا نضحّي بالشّاة الواحدة يذبحها الرّجل عنه وعن أهل بيته ، ثمّ تباهى النّاس بعد فصارت مباهاةً » . وهذه الصّيغة الّتي قالها أبو أيّوب رضي الله عنه تقتضي أنّه حديثٌ مرفوعٌ .
الأضحيّة المنذورة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ نذر التّضحية يوجبها ، سواءٌ أكان النّاذر غنيّاً أم فقيراً ، وهو إمّا أن يكون نذراً لمعيّنةٍ نحو : للّه عليّ أن أضحّي بهذه الشّاة ، وإمّا أن يكون نذراً في الذّمّة لغير معيّنةٍ لمضمونةٍ ، كأن يقول : للّه عليّ أن أضحّي ، أو يقول : للّه عليّ أن أضحّي بشاةٍ . فمن نذر التّضحية بمعيّنةٍ لزمه التّضحية بها في الوقت ، وكذلك من نذر التّضحية في الذّمّة بغير معيّنةٍ ، ثمّ عيّن شاةً مثلاً عمّا في ذمّته ، فإنّه يجب عليه التّضحية بها في الوقت . وصرّح الشّافعيّة بأنّ من نذر معيّنةً ، وبها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء صحّ نذره ، ووجب عليه ذبحها في الوقت ، وفاءً بما التزمه ، ولا يجب عليه بدلها . ومن نذر أضحيّةً في ذمّته ، ثمّ عيّن شاةً بها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم يصحّ تعيينه إلاّ إذا كان قد نذرها معيبةً ، كأن قال : عليّ أن أضحّي بشاةٍ عرجاء بيّنة العرج . وقال الحنابلة مثل ما قال الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم أجازوا إبدال المعيّنة بخيرٍ منها ، لأنّ هذا أنفع للفقراء . ودليل وجوب الأضحيّة بالنّذر : أنّ التّضحية قربةٌ للّه تعالى من جنسها واجبٌ كهدي التّمتّع ، فتلزم بالنّذر كسائر القرب ، والوجوب بسبب النّذر يستوي فيه الفقير والغنيّ .
أضحيّة التّطوّع :
12 - من لم تجب التّضحية عليه لعدم توفّر شرطٍ من شروط وجوبها عند من قال بالوجوب ، ولعدم توفّر شروط السّنّيّة عند من قال بأنّها سنّةٌ ، فالأضحيّة تعتبر في حقّه تطوّعاً .
شروط وجوب الأضحيّة أو سنّيّتها :
13 - الأضحيّة إذا كانت واجبةً بالنّذر فشرائط وجوبها هي شرائط النّذر ، وهي : الإسلام والبلوغ والعقل والحرّيّة والاختيار ، ولتفصيلها يراجع باب النّذر . وإذا كانت واجبةً بالشّرع ( عند من يقول بذلك ) فشروط وجوبها أربعةٌ ، وزاد محمّدٌ وزفر شرطين ، وهذه الشّروط أو بعضها مشترطةٌ في سنّيّتها أيضاً عند من قال بعدم الوجوب ، وزاد المالكيّة شرطاً في سنّيّتها ، وبيان ذلك كما يلي :
14 - الشّرط الأوّل : الإسلام ، فلا تجب على الكافر ، ولا تسنّ له ، لأنّها قربةٌ ، والكافر ليس من أهل القرب ، ولا يشترط عند الحنفيّة وجود الإسلام في جميع الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية ، بل يكفي وجوده آخر الوقت ، لأنّ وقت الوجوب يفضل عن أداء الواجب ، فيكفي في وجوبها بقاء جزءٍ من الوقت كالصّلاة ، وكذا يقال في جميع الشّروط الآتية ، وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين القائلين بالوجوب والقائلين بالسّنّيّة ، بل إنّه أيضاً شرطٌ للتّطوّع .
15 - الشّرط الثّاني : الإقامة ، فلا تجب على المسافر ، لأنّها لا تتأدّى بكلّ مالٍ ولا في كلّ زمانٍ ، بل بحيوانٍ مخصوصٍ في وقتٍ مخصوصٍ ، والمسافر لا يظفر به في كلّ مكان في وقت التّضحية ، فلو أوجبناها عليه لاحتاج لحمل الأضحيّة مع نفسه ، وفيه من الحرج ما لا يخفى ، أو احتاج إلى ترك السّفر ، وفيه ضررٌ ، فدعت الضّرورة إلى امتناع وجوبها عليه ، بخلاف المقيم ولو كان حاجّاً ، لما روى نافعٌ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّه كان يخلّف لمن لم يحجّ من أهله أثمان الضّحايا ، وذلك ليضحّوا عنه تطوّعاً . ويحتمل أنّه ليضحّوا عن أنفسهم لا عنه ، فلا يثبت الوجوب مع الاحتمال . هذا مذهب الحنفيّة القائلين بالوجوب ، وأمّا من قال بالسّنّيّة فلا يشترط هذا الشّرط ، وكذلك لا يشترط في التّطوّع ، لأنّه لا يترتّب على سنّيّتها ولا التّطوّع بها حرجٌ .
16 - الشّرط الثّالث : الغنى - ويعبّر عنه باليسار - لحديث « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » والسّعة هي الغنى ، ويتحقّق عند الحنفيّة بأن يكون في ملك الإنسان مائتا درهمٍ أو عشرون ديناراً ، أو شيءٌ تبلغ قيمته ذلك ، سوى مسكنه وحوائجه الأصليّة وديونه . وقال المالكيّة : يتحقّق الغنى بألاّ تجحف الأضحيّة بالمضحّي ، بألاّ يحتاج لثمنها في ضروريّاته في عامه . وقال الشّافعيّة : إنّما تسنّ للقادر عليها ، وهو من ملك ما يحصل به الأضحيّة ، فاضلاً عمّا يحتاج إليه في يوم العيد وليلته وأيّام التّشريق الثّلاثة ولياليها .
17 - الشّرطان الرّابع والخامس : البلوغ والعقل ، وهذان الشّرطان اشترطهما محمّدٌ وزفر ، ولم يشترطهما أبو حنيفة وأبو يوسف ، فعندهما تجب التّضحية في مال الصّبيّ والمجنون إذا كانا موسرين ، فلو ضحّى الأب أو الوصيّ عنها من مالهما لم يضمن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ويضمن في قول محمّدٍ وزفر ، وهذا الخلاف كالخلاف في صدقة الفطر . ولتفصيل حجج الفريقين يرجع لمصطلح ( صدقة الفطر ) .
18 - والّذي يجنّ ويفيق يعتبر حاله في الجنون والإفاقة ، فإن كان مجنوناً في أيّام النّحر فهو على الاختلاف ، وإن كان مفيقاً وجبت من ماله بلا خلافٍ ، وقيل : إنّ حكمه حكم الصّحيح كيفما كان . وهذا الّذي قرّره صاحب " البدائع " يقتضي برجيح القول بالوجوب ، لكن صحّح صاحب الكافي القول بعدم الوجوب ورجّحه ابن الشّحنة واعتمده صاحب " الدّرّ المختار " ناقلاً عن متن " مواهب الرّحمن " أنّه أصحّ ما يفتى به ، وقال ابن عابدين : إنّ هذا القول اختاره صاحب الملتقى حيث قدّمه ، وعبّر عن مقابله بصيغة التّضعيف ، وهي " قيل " . هذا كلّه رأي الحنفيّة . وقال المالكيّة : لا يشترط في سنّيّة التّضحية البلوغ ولا العقل ، فيسنّ للوليّ التّضحية عن الصّغير والمجنون من مالهما ، ولو كانا يتيمين . وقال الشّافعيّة : لا يجوز للوليّ أن يضحّي عن محجوريه من أموالهم ، وإنّما يجوز أن يضحّي عنهم من ماله إن كان أباً أو جدّاً ، وكأنّه ملكها لهم وذبحها عنهم ، فيقع له ثواب التّبرّع لهم ، ويقع لهم ثواب التّضحية . وقال الحنابلة في اليتيم الموسر : يضحّي عنه وليّه من ماله ، أي مال المحجور ، وهذا على سبيل التّوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب .
19 - هذا وقد انفرد المالكيّة بذكر شرطٍ لسنّيّة التّضحية ، وهو ألاّ يكون الشّخص حاجّاً ، فالحاجّ لا يطالب بالتّضحية شرعاً ، سواءٌ ، أكان بمنًى أم بغيرها ، وغير الحاجّ هو المطالب بها ، وإن كان معتمراً أو كان بمنًى . وعند الحنفيّة لا تجب على حاجٍّ مسافرٍ .
20 - هذا وليست الذّكورة ولا المصر من شروط الوجوب ولا السّنّيّة ، فكما تجب على الذّكور تجب على الإناث ، وكما تجب على المقيمين في الأمصار تجب على المقيمين في القرى والبوادي ، لأنّ أدلّة الوجوب أو السّنّيّة شاملةٌ للجميع .
تضحية الإنسان من ماله عن ولده :
21 - إذا كان الولد كبيراً فلا يجب على أبيه أو جدّه التّضحية عنه ، أمّا الولد وولد الولد الصّغيران فإن كان لهما مالٌ فقد سبق الكلام عن ذلك ، وإن لم يكن لهما مالٌ ، فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان :
أولاهما : أنّها لا تجب ، وهو ظاهر الرّواية ، وعليه الفتوى ، لأنّ الأصل أنّه لا يجب على الإنسان شيءٌ عن غيره ، وخصوصاً القربات ، لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } . وقوله جلّ شأنه { لها ما كسبت } . ولهذا لم تجب عليه عن ولده وولد ولده الكبيرين .
ثانيتهما : أنّها تجب ، لأنّ ولد الرّجل جزؤه وكذا ولد ابنه ، فإذا وجب عليه أن يضحّي عن نفسه وجب عليه أن يضحّي عن ولده وولد ابنه قياساً على صدقة الفطر . ثمّ على القول بظاهر الرّواية - وهو عدم الوجوب - يستحبّ للإنسان أن يضحّي عن ولده وولد ابنه الصّغيرين من مال نفسه ، والمقصود بولد ابنه هو اليتيم الّذي تحت ولاية جدّه . وهذا موافقٌ لما سبق من مذهب الجمهور .
شروط صحّة الأضحيّة
22 - للتّضحية شرائط تشملها وتشمل كلّ الذّبائح ، ولتفصيلها ( ر : ذبائح ) .
وشرائط تختصّ بها ، وهي ثلاثة أنواعٍ : نوعٌ يرجع إلى الأضحيّة ، ونوعٌ يرجع إلى المضحّي ، ونوعٌ يرجع إلى وقت التّضحية .
النّوع الأوّل : شروط الأضحيّة في ذاتها :
23 - الشّرط الأوّل : وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب : أن تكون من الأنعام ، وهي الإبل عراباً كانت أو بخاتيّ ، والبقرة الأهليّة ومنها الجواميس ، والغنم ضأناً كانت أو معزاً ، ويجزئ من كلّ ذلك الذّكور والإناث . فمن ضحّى بحيوانٍ مأكولٍ غير الأنعام ، سواءٌ أكان من الدّوابّ أم الطّيور ، لم تصحّ تضحيته به ، لقوله تعالى : { ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولأنّه لم تنقل التّضحية بغير الأنعام عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو ذبح دجاجةً أو ديكاً بنيّة التّضحية لم يجزئ . ويتعلّق بهذا الشّرط أنّ الشّاة تجزئ عن واحدٍ ، والبدنة والبقرة كلٌّ منهما عن سبعةٍ ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال : « نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ » ، وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم ، وبه قال عطاءٌ وطاوسٌ وسالمٌ والحسن وعمرو بن دينارٍ والثّوريّ والأوزاعيّ وأبو ثورٍ وأكثر أهل العلم ، وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وعن ابن عمر رضي الله عنهما روايةٌ أخرى أنّه قال : « لا تجزئ نفسٌ واحدةٌ عن سبعةٍ » وقال المالكيّة : لا يجزئ الاشتراك في اللّحم أو الثّمن ، لا في الشّاة ولا في البدنة ولا في البقرة ، ولكن تجزئ الأضحيّة الواحدة الّتي يملكها شخصٌ واحدٌ أن يضحّي بها عن نفسه وعن أبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وكذلك يجزئ أن يضحّي الإنسان بالأضحيّة الواحدة الّتي يملكها وحده ناوياً إشراك غيره معه في الثّواب ، أو ناوياً كونها كلّها عن غيره كما سبق ( ف 9 ) .
24 - الشّرط الثّاني : أن تبلغ سنّ التّضحية ، بأن تكون ثنيّةً أو فوق الثّنيّة من الإبل والبقر والمعز ، وجذعةً أو فوق الجذعة من الضّأن ، فلا تجزئ التّضحية بما دون الثّنيّة من غير الضّأن ، ولا بما دون الجذعة من الضّأن ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تذبحوا إلاّ مسنّةً ، إلاّ أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعةً من الضّأن » . والمسنّة من كلّ الأنعام هي الثّنيّة فما فوقها . حكاه النّوويّ عن أهل اللّغة . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « نعمت الأضحيّة الجذع من الضّأن » . وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين الفقهاء ، ولكنّهم اختلفوا في تفسير الثّنيّة والجذعة .
25 - فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما أتمّ ستّة أشهرٍ ، وقيل : ما أتمّ ستّة أشهرٍ وشيئاً . وأيّاً ما كان فلا بدّ أن يكون عظيماً بحيث لو خلط بالثّنايا لاشتبه على النّاظرين من بعيدٍ . والثّنيّ من الضّأن والمعز ابن سنةٍ ، ومن البقر ابن سنتين ، ومن الإبل ابن خمس سنين . وذهب المالكيّة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما بلغ سنةً ( قمريّةً ) ودخل في الثّانية ولو مجرّد دخولٍ ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنةً ، ودخل في الثّانية دخولاً بيّناً ، كمضيّ شهرٍ بعد السّنة ، وفسّروا الثّنيّ من البقر بما بلغ ثلاث سنين ، ودخل في الرّابعة ولو دخولاً غير بيّنٍ ، والثّنيّ من الإبل بما بلغ خمساً ودخل في السّادسة ولو دخولاً غير بيّنٍ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجذع ما بلغ سنةً ، وقالوا : لو أجذع بأن أسقط مقدّم أسنانه قبل السّنة وبعد تمام ستّة أشهرٍ يكفي ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنتين ، وكذلك البقر .
26 - الشّرط الثّالث : سلامتها من العيوب الفاحشة ، وهي العيوب الّتي من شأنها أن تنقص الشّحم أو اللّحم إلاّ ما استثني . وبناءً على هذا الشّرط لا تجزئ التّضحية بما يأتي :
1 - العمياء .
2 - العوراء البيّن عورها ، وهي الّتي ذهب بصر إحدى عينيها ، وفسّرها الحنابلة بأنّها الّتي انخسفت عينها وذهبت ، لأنّها عضوٌ مستطابٌ ، فلو لم تذهب العين أجزأت عندهم ، وإن كان على عينها بياضٌ يمنع الإبصار .
3 - مقطوعة اللّسان بالكلّيّة .